قال الله تعالى: {لا يكلِّف الله نفساً إلا وسعها}، وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال للناس: "أيُّها الناس، قد فرض الله عليكم الحجَّ فحجُّوا"، فقال رجل: أكلُّ عام يا رسول الله؟، فسكت، حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو قلت نعم، لوجبت، ولما استطعتم"، ثمَّ قال: "ذروني ما تركتكم، فإنَّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيءٍ فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيءٍ فدعوه"رواه مسلم.
وقد كان قيام الليل فرضاً في أوَّل الأمر، حين قال تعالى: {يا أيُّها المزمِّل، قم الليل إلا قليلا، نصفه أو انقص منه قليلا، أو زد عليه ورتِّل القرآن ترتيلا}، ثمَّ نُسِخ هذا الفرض إلى الندب بقوله تعالى: {إنَّ ربَّك يعلم أنَّك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفةٌ من الذين معك والله يقدِّر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرؤوا ما تيسَّر من القرآن}.
يقول الإمام القرطبي: "وكان الرجل لا يدري متى نصف الليل من ثلثه، فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطئ، فانتفخت أقدامهم، وانتقعت ألوانهم، فرحمهم الله وخفَّف عنهم". لأجل ذلك، خفَّف الله على المسلمين رحمةً بهم، ولم يجعل القيام فرضا، بل ندب إليه وحثَّ عليه.
2- الحديث نصُّه: "يا أيُّها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلوا الأرحام، وصلُّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنَّة بسلام"رواه الترمذيُّ وابن ماجه والحاكم بسندٍ صحيح.
أمَّا هل المقصود من الحديث أنَّهم يدخلون بدون حساب، فالحقيقة لم أجد في كتب شرَّاح الحديث من تحدَّث في هذا الأمر.
إلا أنني وجدتُّ عند الإمام المباركفوري ما يفيد عكس ذلك، حيث قال في شرح الحديث: "تدخلوا الجنَّة بسلام" أي من الله، أو من ملائكته، من مكروهٍ أو تعبٍ ومشقَّة"، وهذا يوحي بأنًّ هناك حساب، ولكنَّه حسابٌ يسيرٌ دون مشقَّة.
غير أنِّي لا أرى مانعاً من أن يكون المعنى عامًّا يحتمل الأمرين معا، فقد يكون المعنى الدخول دون حساب، وقد يكون الدخول بعد حسابٍ يسير، وقد يكون الأمرين معا، فهذا يدخل دون حساب، وذاك يدخل بعد حسابٍ يسير، والأمور كلُّها بيد الله تعالى يقلِّبها بحكمته كيف يشاء، وليس بعيداً عن رحمته سبحانه أن تكون بغير حساب.
3- ارتبط قيام الليل في أذهان الناس بشهر رمضان، نظراً لأنَّ رمضان هو شهر الصيام والقيام، ويتأكَّد هذا القيام في العشر الأواخر حيث الاعتكاف والتهجُّد، ومسألة ارتباط القيام في أذهان الناس برمضان، نابعةٌ من تقصير المسلمين في غير رمضان في القيام بهذه العبادة واغتنام دقائق الليل الغالية، ولذلك غدا قيام الليل له مناسبةٌ هي حلول شهر رمضان.
وهذا بالطبع ليس هو الأصل، فربُّ رمضان الذي نقوم له فيه هو ربُّ الشهور الأخرى، وهو سبحانه الذي ينزل كلَّ ليلةٍ في ثلثها الأخير ليقول: "من يدعوني فأستجيب له؟ ومن يسألني فأعطيه؟ ومن يستغفرني فأغفر له" كما ثبت في الحديث المتَّفق عليه.
4- الأسباب الباطنة التي تعين المسلم على قيام الليل كثير، أهمُّها –كما ذكر الإمام ابن قدامة المقدسيّ:
- حبٌّ الله تعالى.
- قوَّة الإيمان، بأنَّه إذا قام ناجى ربَّه، وأنَّه حاضره ومُشاهِده، فتحمله المناجاة على طول القيام.
- سلامة القلب للمسلمين.
- خلوُّ القلب من البدع.
- إعراض القلوب عن فضول الدنيا.
- خوفٌ غالبٌ يلزم القلب مع قِصر الأمل.
- معرفة فضل القيام.
قال أبو سليمان رحمه الله تعالى: "أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا".
5- نصُّ حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها هو: "يجمع الله الناس يوم القيامة في صعيدٍ واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، فيقوم منادٍ فينادي: أين الذين كانوا يحمدون الله في السراء والضراء؟ فيقومون وهم قليلٌ فيدخلون الجنَّة بغير حساب، ثمَّ يعود فينادي: أين الذين كانت "تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون رَّبهم خوفاً وطمعاً وممَّا رزقناهم ينفقون"؟
فيقومون وهم قليلٌ فيدخلون الجنَّة بغير حساب، ثمَّ يعود فينادي: ليقم الذين كانوا {لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله}، فيقومون وهم قليلٌ فيدخلون الجنَّة بغير حساب، ثمَّ يقوم سائر الناس فيحاسَبون"رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه والثعلبيّ.
والحقيقة لم أجد تخريجاً لدرجة هذا الحديث من حيث الصحَّة والضعف، وبعيداً عن درجة صحَّة الحديث، فإنَّ مبدأ "القليل" مبدأٌ أصيلٌ في ديننا، نظراً لأنَّ هذا القليل دائماً ما يرتبط بالعمل لله تعالى والطاعة والبذل، وهذه كلُّها تكاليف شاقَّةٌ لا يقدر عليها إلا القليلون، قال تعالى: {والسابقون السابقون، أولئك المقرَّبون، في جنَّات النعيم، ثلَّةٌ من الأوَّلين، وقليلٌ من الآخرين}.
وقال سبحانه على لسان داود عليه السلام: "قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإنَّ كثيراً من الخُلَطاء ليبغي بعضهم على بعضٍ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليلٌ ما هم"، وقال جلَّ شأنه يحكي قصَّة نوحٍ عليه السلام: "حتى إذا جاء أمرنا وفار التنُّور قلنا احمل فيها من كلٍّ زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل".
وهكذا يتبيَّن أنَّ القلَّة هي الأصل، لأنَّ الدعوات تحتاج بذلاً وعطاءً وتضحية، وهذه لا يلقَّاها إلى فئةٌ قليلة من الصابرين ذوي الحظِّ العظيم.